دور تركيا المتوازن- الوساطة والقلق في ظلّ التصعيد الإسرائيلي الإيراني

على خلفية اجتماع قمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) في لاهاي، أعرب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، خلال لقائه بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب، عن ترحيبه الحار بوقف إطلاق النار المعلن بوساطة أمريكية بين إيران و"إسرائيل"، مبدياً تطلعه إلى أن يترسخ هذا الوقف ويتحول إلى اتفاق سلام دائم ومستدام.
هذه التصريحات تعكس الموقف التركي تجاه المواجهة العسكرية الأخيرة بين الطرفين، والذي تميز بالتركيز الشديد على تأثير هذه الأحداث وتداعياتها المحتملة على المصالح التركية.
تطور الموقف
لقد نظرت أنقرة إلى الاعتداء "الإسرائيلي" على الأراضي الإيرانية على أنه فصل أخير في سلسلة من التصعيدات "الإسرائيلية" المزعزعة للاستقرار في المنطقة. بناءً على ذلك، ركزت التصريحات الرسمية التركية بشكل أساسي على إدانة تهديد "إسرائيل" الصارخ للأمن والاستقرار الإقليميين. علاوة على ذلك، تصاعد الشعور بالتهديد لدى تركيا، إذ أدركت أن تفاقم الأوضاع الإقليمية وتزايد الاعتداءات "الإسرائيلية" من شأنه أن يضر بمصالحها بشكل مباشر وغير مباشر في المستقبل القريب.
هذا الإحساس بالخطر ليس وليد اللحظة، بل يعود إلى العدوان "الإسرائيلي" على لبنان، والتحذيرات التركية اللاحقة من احتمال امتداده إلى سوريا وصولاً إلى تركيا نفسها. ففي تلك الفترة، صرح أردوغان بأن "القوات الإسرائيلية على بعد ساعتين فقط من حدودنا"، ولوّح بإمكانية تدخل بلاده عسكرياً في فلسطين، على غرار ما فعلته في ليبيا وناغورني قره باغ، بعد تعزيز قدراتها العسكرية. هذا التصريح أثار رد فعل غاضباً من دولة الاحتلال، التي هددت أردوغان بمصير مشابه لمصير صدام حسين.
لقد أدانت أنقرة بشدة الهجمات التي استهدفت طهران، وحذرت من مغبة استمرارها، ومن "دعم أطراف دولية لها". ووصف أردوغان تلك الهجمات بأنها "أعمال إرهابية"، معرباً عن تضامن بلاده الكامل مع إيران باعتبارها طرفاً معتدى عليه، ومشدداً على الأهمية القصوى للعودة إلى المسار الدبلوماسي، ومؤكداً في الوقت نفسه استعداد تركيا لبذل كافة الجهود الممكنة في هذا الصدد.
أمام الوفود الممثلة للدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي، المجتمعين في إسطنبول لحضور الدورة الحادية عشرة لمجلس وزراء الخارجية، صرح وزير الخارجية التركي هاكان فيدان بعبارة قوية ومؤثرة: "ليست هناك مشكلة في المنطقة اسمها فلسطين أو لبنان أو سوريا أو إيران، وإنما هناك مشكلة واحدة وجوهرية، اسمها إسرائيل."
وفي سياق متصل، جدد أردوغان التأكيد على تضامن بلاده الراسخ مع جارتها إيران في مواجهة الاعتداءات، معرباً عن تفاؤله بأن "النصر سيكون حليفها". كما حذر من وجود "مؤامرة خبيثة تتزامن مع الذكرى المئوية لاتفاقية سايكس بيكو"، مؤكداً في الوقت ذاته أن تركيا "لن تسمح بمرور هذه المؤامرة الخبيثة".
وقد انسجمت هذه التصريحات مع الموقف الرسمي التركي التقليدي الرافض للحلول العسكرية والتصعيد، والمفضل للمسارات السياسية والدبلوماسية، خاصة وأن أي تهديد للاستقرار الإقليمي من شأنه أن يؤثر سلباً على الاقتصاد التركي. كما أن استهداف إيران قد يضر بتركيا من زوايا متعددة، بدءاً بالاقتصاد والتجارة والسياحة، ولا ينتهي بموجات لجوء محتملة نحو الأراضي التركية.
والأهم من ذلك هو أن أنقرة نظرت إلى العدوان "الإسرائيلي" والخطاب الداعي إلى تغيير النظام في إيران على أنهما يشكلان مساراً محتملاً لتغيير التوازنات والمعادلات في المنطقة لصالح "إسرائيل" بشكل نهائي، وهو ما لا يخدم مصالح تركيا بالتأكيد، والتي أعربت منذ بداية العدوان على غزة في أكتوبر/ تشرين الأول 2023 عن موقف معارض له.
حذرت بعض الأصوات داخل تركيا من أن تكون بلادهم هي المحطة التالية للاستهداف بعد إيران، في ظل التصريحات "الإسرائيلية" التي لمّحت إلى ذلك. ولعل هذا أحد أهم الدوافع التي تقف وراء تعبير أردوغان عن "تفاؤله بانتصار إيران".
على الرغم من ذلك، لم يتجاوز موقف أنقرة حدود التعبير عن القلق والإدانة، ولم يصل إلى مستوى العمل المباشر، وذلك بسبب شعورها بأنها غير محصنة بشكل كامل أمام عدوان مماثل. هذا الشعور عبر عنه أردوغان في حديثه أمام الكتلة البرلمانية لحزبه العدالة والتنمية، حيث أشاد بالإنجازات التي حققتها بلاده في مجال الصناعات الدفاعية، وشدد على ضرورة مواصلة هذا التقدم لتحقيق الحماية الكاملة لها.
كما أن غموض الموقف الأميركي في بداية الأزمة، ثم قصف المنشآت النووية، ساهما في ضبط الموقف التركي، الذي لم يرغب في إحداث تأثيرات سلبية على العلاقات الثنائية مع واشنطن، بما في ذلك ملف السلاح والقضية السورية ودعم قوات سوريا الديمقراطية (قسد). ولهذا السبب، لم تدن أنقرة العملية العسكرية بشكل صريح، وإنما اكتفت بالتعبير عن "قلقها من أن تساهم في زيادة التوتر في المنطقة".
الوساطة
بشكل عام، اتسم الموقف الرسمي التركي بالانضباط والاتزان، وفقاً لثلاثة مسارات رئيسية: الحفاظ على حياد إيجابي، وعدم الانخراط المباشر في المواجهة القائمة، خاصة بعد التدخل الأميركي، والعمل على تهدئة الأوضاع ومنع تفاقم التصعيد من خلال لعب دور الوساطة، وتعزيز القدرات الذاتية لتركيا في مجال الصناعات العسكرية، ولا سيما فيما يتعلق بمنظومات الدفاع الجوي على المدى البعيد.
في مقابلة تلفزيونية يوم الجمعة الماضي، أكد وزير الخارجية التركي أنه تلقى اتصالاً هاتفياً ليلة الهجوم "الإسرائيلي" على إيران من نظيره الأميركي ماركو روبيو، الذي أبلغه بأن الولايات المتحدة لن تكون طرفاً في أي هجوم محتمل على إيران، وبالتالي فهي لا تتوقع ردًا إيرانيًا عليها، وإلا سيكون ردها قاسيًا، وأنها قلقة بشأن وجودها في المنطقة. وقد نقل فيدان هذه الرسالة بصفته وسيطاً إلى الجانب الإيراني.
كما ذكر فيدان أنه تحدث مع نظيره الإيراني عباس عراقجي بعد الضربة الأميركية، خلال مشاركة الأخير في اجتماع منظمة التعاون الإسلامي في إسطنبول، وأن تقدير طهران كان أن الولايات المتحدة وجهت ضربة محدودة للمنشآت الإيرانية، وليست في وارد حرب شاملة مع طهران، وبالتالي فإن إيران - وفقاً لإستراتيجيتها - سترد رداً محدوداً ومنضبطاً كذلك، وليست راغبة بدورها في حرب شاملة مع واشنطن. وقد نقل الوزير التركي هذه الرسالة أيضاً إلى الولايات المتحدة.
وخلص الوزير التركي إلى أن تلك الاتصالات كشفت أن كلا الطرفين لم يكونا معنيين بتوسيع المواجهة ورفع مستوى التصعيد بينهما، ولذلك كان هناك نوع من "التوافق المسبق" على سقوف الضربات، وهو ما اعتبره الوزير حالة نادرة في تاريخ الحروب.
إن هذا الجهد المتعلق بالوساطة المباشرة ونقل الرسائل بين الجانبين الأميركي والإيراني قد حقق من جهة رغبة تركيا في احتواء التصعيد ومنع تحوله إلى حرب شاملة ومدمرة بين الجانبين. كما أنه من جهة ثانية لا يلغي رغبتها في لعب دور الوسيط كذلك في أي مفاوضات مستقبلية بين الجانبين، مستفيدة من خبرتها الواسعة في التوسط واستضافة المفاوضات، وكذلك من العلاقات الجيدة التي تربطها بالطرفين، وثالثاً من مخرجات الدور الذي لعبته خلال الحرب نفسها والذي ترى أنه أفاد ومنع تدحرج الأحداث إلى ما لا تحمد عقباه.
بيد أن مسار المفاوضات قائم خلال السنوات الماضية بين الولايات المتحدة وإيران وفق آلية جاهزة ومتكررة تستضيفها دولة عمان على شكل جولات تفاوضية، وليس ثمة سبب جوهري يدعو لتغيير المكان سريعاً في أي مفاوضات مقبلة، وهو ما أشار إليه وزير الخارجية التركي في الحوار المشار إليه.
لكن ذلك لا ينفي بالمطلق إمكانية لعب أنقرة دوراً في تقريب وجهات النظر وربما تشجيع طهران على قبول العودة للمفاوضات من جهة، ولا يحول كذلك دون احتمال استضافة تركيا حواراً وربما جولة مفاوضات بينهما في المستقبل القريب أو البعيد.
في المحصلة النهائية، ارتكز الموقف التركي الرسمي خلال العدوان "الإسرائيلي" على إيران على ركائز أساسية، أهمها شجب العدوان، وتجنب التورط بشكل مباشر في الصراع، ولعب دور الوسيط ونقل الرسائل بين واشنطن وطهران، مع التأكيد في الوقت نفسه على ضرورة تعزيز أوراق القوة الذاتية وحماية تركيا من أي تداعيات مباشرة أو غير مباشرة للمواجهة التي حصلت.
وهو ما أكد عليه فيدان بأن المؤسسات المختلفة عملت على ذلك منذ اللحظات الأولى لبدء العدوان "الإسرائيلي" على إيران، ما جعل المسؤولين الأتراك "لا ينامون تلك الليلة والليالي التي تلتها" على حد تعبيره.
وختاماً، تعلق أنقرة آمالاً كبيرة على وجود فرصة سانحة لتوصل إيران والولايات المتحدة الأميركية إلى اتفاق ما بشأن الملف النووي، الأمر الذي يمكن أن يساهم بشكل فعال في تهدئة الأوضاع المتوترة في المنطقة.
بيدَ أن ذلك لا يستبعد بشكل قاطع احتمال نشوب صراع جديد بين إيران و"إسرائيل" تحديداً، لأن "من يريد الحرب سيجد لها ذريعة" على حد تعبير فيدان نفسه بالإشارة لـ "إسرائيل"، ولعله يلخص القلق التركي العميق من عودة المواجهة العسكرية بين الجانبين في المستقبل القريب أو البعيد.